فصل: الشاهد الخامس والخمسون بعد المائتين(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السادس والأربعون بعد المائتين

وكان طوى كشحاً على مستكنّة *** فلا هو أبداها ولم يتقدّم

على أن خبر كان يجوز أن يجيء ماضياً بدون تقدير قد‏.‏

وهذا البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، وقبله‏:‏

لعمري لنعم الحيُّ جرًّ عليهم *** بما لا يؤاتيهم حصين بن ضمضم

وكان طوى كشحاً على مستكنّة *** فلا هو أبداها ولم يتقدّم

جرَّ كم الجريرة، وهي الجناية‏.‏ ويؤاتيهم‏:‏ يوافقهم‏.‏ حصين بن ضمضم هو ابن عمِّ النابغة الذُّبياني، وجنايته أنّه لما اصطلحت قبيلة ذبيان مع قبيلة عبس، امتنع حصين بن ضمضم من الصّلح واستتر منهما، ثم عدا على رجل من بني عبس فقتله‏.‏ وإنّما مدح حيًّ ذبيان لتحملهم الديات إصلاحاً لذات البين‏.‏

وضمير كان وطوى لحصين بن ضمضم‏.‏ والكشح الخاصرة، يقال‏:‏ طوى كشحه عن فعلةٍ، إذا أضمرها في نفسه‏.‏ والمستكنّة‏:‏ المستترة، أي‏:‏ أضمر على غدرة مستترة؛ لأنّه كان قد أضمر قتل ورد بن حابس فإنّه كان قتل أخاه هرم بن ضمضم‏.‏

وقوله‏:‏ فلا هو أبداها‏.‏ الخ المعنى‏:‏ فلم يظهرها ولم يتقدّم فيها قبل مكانها‏.‏

ويروى‏:‏ ولم يتجمجم بجيمين، أي‏:‏ لم يتنهنه عمّا أراد مّما كتم‏.‏ وتكون لا مع الماضي بمنزلة لم مع المضارع في المعنى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة أي‏:‏ لم يقتحمها‏.‏ وقال أميّة بن أبي الصّلت‏:‏ الرجز

إن تغفر اللّهمّ تغفر جمّ *** وأيّ عبدٍ لك لا ألمّا

أي‏:‏ لم يلمّ بالذنب‏.‏ وقوله‏:‏ وكان طوى هو عند المبّرد بإضمار قد، أي‏:‏ قد طوى‏.‏

قال‏:‏ لأنّ كان فعل ماض فلا يخبر عنه إلاّ باسم وبما ضارعه‏.‏ قال‏:‏ ولا يجوز كان زيد قام، لأنّ زيد قام يغنيك عن كان‏.‏ وخالفه أصحابه فقالوا‏:‏ الماضي قد ضارع الاسم أيضاً فهو يقع خباً لكان، كما يقع الاسم والفعل المستقبل، وأمّا قولك كان زيد قام، فإنّما جيء بكان لتؤكّد أن الفعل لما مضى‏.‏

وقد تقدّم في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة أول باب الاشتغال شرح هذين البيتين مع أبياتٍ كثيرة من هذه المعلقة، وذكرنا سبب نظمها بما لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى‏.‏

ويقدم أيضاً ترجمة زهير بن أبي سلمى في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين

أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملو *** أخنى عليها الذي أخنى على لبد

على أنّ خبر أضحى يجوز أن يكون فعلاً ماضياً بدون قد، فأهلها اسم أضحى، وجملة احتملوا في محل نصب على أنها خبر أضحى، ولا تقدّر قد كما ذهب إليه ابن مالك، خلافاً للمبرّد كما تقدّم بيانه‏.‏

وهذا البيت من قصيدةً للنّابغة الذُّبيانيّ مدح بها النعمان بن المنذر، واعتذر إليه مما بلغه عنه؛ وهي من الاعتذاريّات، وقد ألحقوها لجودتها بالمعلقات السبع‏.‏ وهذا أوّلها‏:‏

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند *** أقوت وطال عليها سالف الأبد

وقفت فيها اصيلاً كي أسائله *** عيّت جواباً وما بالرّبع من أحد

إلاّ أواريّ لأياً ما أبيّنه *** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

ردّت عليه أقاصيه ولبّده *** ضرب الوليدة بالمسحاة في الثّأد

خلت سبيل أتيٍّ كان يحبسه *** ورفعته إلى السّجقنين فالنّضد

أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملو *** أخنى عليها الذي أخنى على لبد

قوله‏:‏ يا دار ميّة الخ قال الأصبهانيّ في الأغاني‏:‏ قال الأصمعيّ‏:‏ يريد يا أهل دار ميّة‏.‏ وقال القراء‏:‏ نادى الديار لا أهلها، أسفاً عليها وتشوّقاً إليها‏.‏ وقال‏:‏ أقوت ولم يقل أقويت، لأنّ من شأن العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه ويكنون عنه‏.‏

العلياء بالفتح والمد‏:‏ المكان المرتفع من الأرض‏.‏ قال ابن السكّيت‏:‏ قال بالعلياء فجاء بالياء لأنّه بناها على عليت بالكسر‏.‏ والسّند‏:‏ سند الوادي في الجبل، وهو ارتفاعه حيث يسند فيه، أي‏:‏ يصعد‏.‏ وأقوت‏:‏ خلت من أهلها‏.‏ والسالف‏:‏ الماضي‏.‏ والأبد‏:‏ الدّهر‏.‏ ويأتي الكلام على هذا البيت إن شاء الله تعالى بأكثر من هذا في الفاء من حروف العطف‏.‏

قوله‏:‏ وقفت فيها الخ، الأصيل ما بعد الظّهر إلى الغروب، وروي أصيلاناً مصغر أصلان، وهو جمع الكثرة إذا صغر ردّ إلى مفرده‏.‏ وروي‏:‏ وقفت فيها طويلاً ، أي‏:‏ وقوفاً طويلاً‏.‏

وقوله‏:‏ عيّت ، يقال‏:‏ عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه‏.‏ وجواباً قيل منصوب على المصدر، أي‏:‏ عيّت أن تجيب، وما بها أحدٌ ‏.‏ والرّبع‏:‏ المنزل في الربيع، ثم كثر حتّى قيل كل منزل ربع‏.‏

وقوله‏:‏ إلاّ أواريّ ، بالنصب لأنّه استثناء منقطع‏.‏ والنّؤي معطوف عليه‏.‏ وروي‏:‏ إلاّ أواريّ ، بالرفع على أنّه بدل من موضع قوله‏:‏ من أحد الواقع فاعلاً للظرف، والأواريّ هي الأواخيّ جمع آريّ وآخيّة بالمد والتشديد فيهما‏.‏ والآريّ‏:‏ محبس الدّابة، والآخية قطعة من حبل يدفن طرفاه في الأرض وفيه عصيّة وحجر، فتظهر منه مثل عروة تشدّ إليه الدّابّة، وقد تسمى الآخية آرياً؛ وفعلهما آريت الدابّة وأخيّتها بتشديد الثاني‏.‏ واللأي، بفتح اللام وسكون الهمزة‏:‏ البطء، يقال‏:‏ فعل كذا بعد لأي، أي‏:‏ بعد شدّة لأياً والتأى، أي‏:‏ أبطأ إبطاءً‏.‏ والمعنى‏:‏ بعد بطء تعرّفتها‏.‏

والنّؤي بضم النون وسكون الهمزة‏:‏ حفيرة حول الخباء والبيت يجعل ترابها حاجزاً حولهما لئلاّ يصل إليهما ماء المطر‏.‏ والمظلومة‏:‏ الأرض التي قد حفر فيها في غير موضع الحفر‏.‏ والجلد ، بفتح الجيم واللام‏:‏ الأرض الغليظة الصّلبة من غير حجارة، وإنّما قصد إلى الجلد لأنّ الحفر فيها يصعب، فيكون ذلك أشبه شيءٍ بالنؤي‏.‏

قال ابن السّكّيت‏:‏ إنّما قال بالمظلومة لأنهم مرّوا في تربةٍ فحفروا فيها، حوضاً وليست بموضع حوض، فجعل الشيء في غير موضعه‏.‏

وهذا البيت يأتي الكلام عليه أيضاً إن شاء الله في خبر ما ولا‏.‏

وقوله‏:‏ ردّت عليه أقاصيه الخ، أقاصيه نائب فاعل ردّت، والضمير للنّؤي‏.‏ والأقاصي‏:‏ الأطراف وما بعد منه، أي‏:‏ والأقصى على الأدنى ليرتبع‏.‏ ولبّدة‏:‏ سكّنه، أي‏:‏ سكنّه حفر الوليدة، وهي الأمة‏.‏ والثأد - بفتح المثلثة والهمزة -‏:‏ الموضع النديّ التراب، أي‏:‏ في موضع الثأد‏.‏

وقوله‏:‏ خلّت سبيل أتيّ الخ، الأتيّ‏:‏ السّيل الذي يأتي، ويقال للنهر الصغير‏.‏ يقول‏:‏ لما انسدّ سبيل السّيل سهّلت له طريقاً حتّى جرى، أي‏:‏ تركت الأمة سبيل الماء في الأتيّ، ورفعته، أي‏:‏ قدّمت الحفر إلى موضع السّجفين أوصلته إليهما‏.‏ وليس الترفيع هنا من ارتفاع العلوّ، بل هو من قولهم‏:‏ ارتفع القوم إلى السلطان‏.‏ والسّجفان‏:‏ ستران رقيقان يكونان في مقدّم البيت‏.‏ والنّضد - بفتح النون والضاد المعجمة -‏:‏ ما نضد من متاع البيت‏.‏

وقوله‏:‏ أضحت خلاء الخ، أي‏:‏ أضحت الدار‏.‏ والخلاء بالفتح والمد‏:‏ المكان الذي لا شيء به‏.‏ واحتملو‏:‏ حمّلوا جمالهم وارتحلوا‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ وأخنى عليه الدّهر‏:‏ أتى عليه وأهلكه‏.‏ ومنه قول النّابغة‏:‏ أخنى عليها الذي أخنى على لبد ولبد‏:‏ آخر نسور لقمان بن عاد، وهو منصرف لأنّه ليس بمعدول، وفي المثل‏:‏ أعمر من لبد ‏.‏ قال الزّمخشريّ‏:‏ وهو نسر لقمان العاديّ، سمّاه لبداً معتقداً فيه أنه أبدٌ فلا يموت ولا يذهب، ويزعمون أنه حين كبر قال له‏:‏ انهض، لبد فأنت نسر الأبد‏.‏

قال في الصحاح‏:‏ وتزعم العرب أنّ لقمان هو الذي بعثته عادٌ في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خيّر لقمان بين بقاء سبعة أنسرٍ كلما هلك نسر، خلف بعده نسر؛ فاختار النّسور، فكان آخر نسوره يسمّى لبداً، وقد ذكرته الشعراء، قال النابغة‏:‏ أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملوا‏.‏‏.‏ البيت ولقمان هو ممن آمن بهودٍ عليه السلام، وهلك قومه لكفرهم به - عليه السلام - فأهلكهم الله تعالى بالرّيح سبع ليال وثمانية أيّام حسوما فلم تدع منهم أحداً وسلم هودٌ ومن آمن معه‏.‏ وأرسلت عليهم يوم الأربعاء فلم تدر الأربعاء وعلى الأرض منهم حيّ‏.‏

وأما لقمان المذكور في القرآن فهو غيره، قال صاحب الكشّاف‏:‏ هو لقمان بن باعوراء، ابن أخت أيّوب وابن خالته، وقيل‏:‏ كان يفتي قبل مبعث داود فلمّا بعث قطع الفتوى فقيل له، فقال‏:‏ ألا أكتفي إذا كفيت‏؟‏ وقيل‏:‏ كان قاضياً في بني إسرائيل‏.‏ وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً‏.‏

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً؛ ولكن كان راعياً أسود فرزقه الله العتق ورضي قوله ووصيّته، فقصّ أمره في القرآن ليتمسّكوا بوصيته‏.‏

وقال عكرمة والشّعبي‏:‏ كان نبيّا‏.‏ وقيل‏:‏ خيّر بين النّبوّة والحكمة‏.‏ وعن ابن المسّيب‏:‏ كان أسود، من سودان مصر، خياطاً‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ كان عبداً أسود غليظ الشّفتين متشقق القدمين‏.‏ وقيل‏:‏ كان نجاراً؛ وقيل كان راعياً؛ وقيل‏:‏ كان يختطب لموالاة كل يوم حزمة‏.‏ وهو متأخر عن لقمان العاديّ؛ لأن هوداً متقدمٌ على أيوب وداود، يقال للعاديّ‏:‏ لقمان صاحب النسور ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين

وهو من شواهد سيبويه‏:‏

قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذب *** فما اعتذارك من شيء إذا قيلا

على أنّ كان تحذف مع اسمها بعد إن الشرطيّة، أي‏:‏ إن كان ذلك حقاً، وإن كان كذباً جعله صاحب اللباب من قبيل‏:‏ النّاس مجزيّون بأعمالهم‏:‏ إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ في الوجوه الأربعة‏.‏

قال شارحه الفالي‏:‏ يجوز فيه أربعة أوجه‏:‏ رفعهما، ونصبهما، ورفع الأوّل ونصب الثاني، وبالعكس‏.‏ وتقدير الرفع فيهما‏:‏ إن وقع حقٌ وإن وقع كذبٌ، وإن كان فيه - أي‏:‏ في المقول - حقّ وإن كان فيه كذب‏.‏ ونصبهما على أنّهما خبر كان، والتقدير‏:‏ إن كان المقول حقاً وإن كان المقول كذباً، وأما رفع أحدهما ونصب الآخر فيظهر من بيان نصبهما ورفعهما‏.‏ وإنّما قال‏:‏ منه لأن الوجوه الأربعة كانت في الشرط والجزاء، وهو إن خيراً فخير، وفي البيت الوجوه في الشرطين، وهما إن حقاً وإن كذباً‏.‏

وقوله‏:‏ قيل ذلك المشار إليه البرص الذي في استه‏.‏

وهذا البيت من قصيدةٍ للنّعمان بن المنذر أوّلها‏:‏

شرّد برحلك عنّي حيث شئت ول *** تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا

فقد رميت بداءٍ لست غاسله *** ما جاور السّيل أهل الشّام والنّيلا

فما انتفاؤك منه ما قطعت *** هوج المطيّ به أكناف شمليلا

قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذب *** فما اعتذارك من شيءٍ إذا قيلا

فالحق بحيث رأيت الأرض واسعةً *** وانشر بها الطرف إن عرضاً وإن طولا

قوله‏:‏ شرّد برحلك أي‏:‏ أبعده وارتحل عني‏.‏ وقوله‏:‏ فقد رميت روي بدله‏:‏ فقد ذكرت به والرّكب حامله وضمير به وحامله للبرص المذكور‏.‏ وقوله‏:‏ شمليلا قال البكريّ في معجم ما استعجم‏:‏ هو بكسر أوله وإسكان ثانيه بعده لام مكسورة على وزن فعليل بلد، وانشد هذا البيت‏.‏ ومن العجائب تفسير العينيّ إيّاه بالناقة الخفيفة؛ وكأنّه يكتب من غير أن يتصورّ المعنى‏.‏

والسبب في هذه الأبيات هو ما رواه الحسن الطوسيّ في شرح ديوان لبيد والمفضّل بن سلمة في الفاخر وابن خلف في شرح أبيات سيبويه - وقد تداخل كلام كل منهم في الآخر - أنّ وفد بني عامر منهم طفيل بن مالك، وعامر بن مالك، أتوا النعمان بن المنذر أول ما ملك، في أسارى من بني عامر يشترونهم منه، ومعهم ناس من بني جعفر، ومعهم لبيدٌ، وهو غلامٌ صغير فخلّفوه في رحالهم ودخلوا على النّعمان فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسيّ، وكان نديم النّعمان قد غلب على حديثه ومجلسه، فجعل الربيع يهزأ يهم ويسخر منهم لعداوة غطفان وهوازن، فغاظهم ذلك، فرجعوا بحال سيّئة، فقال لهم لبيد‏:‏ إنّكم تنطلقون بحال حسنة، ثم ترجعون وقد ذهب ذاك وتغير‏.‏ قالوا‏:‏ خالك - وكانت أمّ لبيد عبسيّة - كلّما أقبل علينا بوجهه صدّه عنّا بلسان بليغ مطاع‏.‏

فقال لهم لبيد‏:‏ فما يمنعكم من معارضته‏؟‏ قالوا‏:‏ لحسن منزلته عند النعمان‏.‏ قال‏:‏ فانطلقوا بي معكم‏.‏ فأزمعوا أن يذهبوا به، وحلقوا رأسه وألبسوه حلّةً وغدا معهم، فانتهوا إلى النعمان وربيع معه وهما يأكلان طعاماً، وقيل تمراً وزبداً، فقال لبيد‏:‏ أبيت اللعن، وإن رأيت أن تأذن لي في الكلام‏.‏ فأذن له، فأنشد‏:‏ الرجز

مهلاً أبيت اللّعن لا تأكل معه *** إنّ استه من برص ملمّعه

وإنّه يدخل فيها إصبعه *** يدخلها حتّى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيّعه

وسيأتي شرح هذه الأبيات إن شاء الله تعالى في ربّ من حروف الجرّ‏.‏

فرفع النّعمان يده وأفّف وقال‏:‏ كفّ ويلك يا ربيع، إني أحسبك كما ذكر‏.‏ فقال الربيع‏:‏ إنّ الغلام لكاذب‏.‏ فترك النّعمان مؤاكلته وقال‏:‏ عد إلى قومك‏.‏ فمضى الرّبيع لوقته وتجرّد وأحضر من شاهد بدنه وأنه ليس فيه سوء، ولحق بأهله، وأرسل إلى النعمان بأبيات، منه‏:‏ البسيط

لئن رحلت ركابي لا إلى سعةٍ *** ما مثلها سعةٌ عرضاً ولا طولا

ولو جمعت بني لخمٍ بأسرته *** لم يعدلوا ريشةً من ريش قتميلا

- وروى‏:‏ شمويلا - فأجابه النّعمان‏:‏

شرّد برحلك عنّي حيث شئت ول *** تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا

الأبيات‏:‏ والنّعمان بن المنذر هو آخر ملوك الحيرة تقدّمت ترجمته في الشاهد الخامس والخمسين بعد المائة‏.‏

وأمّا الرّبيع فهو الرّبيع بن زياد العبسيّ، قال الزّمخشريّ في مستقصى الأمثال‏:‏ أنجب من بنت الخرشب هي فاطمة الأنماريّة، ولدت لزياد العبسيّ الكملة‏:‏ ربيعاً الكامل، وعمارة الوهّاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس‏.‏

وقيل لها‏:‏ أيّ بنيك أفضل‏؟‏ فقالت‏:‏ ربيع، بل عمارة، بل قيس، بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، والله إنّهم لكالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين

وهو من شواهد س‏:‏ البسيط

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر *** فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

على أن أصل أما أنت‏:‏ لأن كنت‏.‏ كما شرحه الشارح المحقق وبيّن مختاره، وسيأتي في الشاهد الذي يليه ذكر من وافقه‏.‏

وهذا البيت ونحوه اختلف في تخريجه أهل البلدين، قال أبو عليّ في البغداديات‏:‏ قال سيبويه‏:‏ سألته - يعني الخليل - عن قوله‏:‏ أما أنت منطلقاً أنطلق معك، فرفع، وهو قول أبي عمرو، حدّثنا به يونس، يريد أنّه رفع أنطلق ولم يجزمه على أنّه جزاء‏.‏ وحكى أبو عمر الجرميّ عن الأصمعيّ فيما أظنّ المجازاة بأمّا المفتوحة الهمزة وزعم أنّه لم يحكه غيره‏.‏ وهذا الذي حكاه أبو عمر يقويّه الذي ذكرنا وهو‏:‏ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفرٍ لأنه ليس في البيت ما يحمل عليه أن فيتعلق به، كما أنها في قولهم أما أنت منطلقاً أنطلق معك متعلق بأنطلق معك‏.‏

فإن قلت‏:‏ يكون متعلقاً بفعل مضمر يفسّره ما بعده‏:‏ فالجواب ما يكون تفسيراً لا يعطف به على المفسّر، ألا ترى أنّك تقول‏:‏ إن زيداً ضربته، ولا يجوز، إن زيداً فضربته، فإذا لم يجز، كانت الفاء في فإنّ قومي جواب شرط وأنت مرتفع بفعل مضمر‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد تزاد الفاء كما حكى أبو الحسن‏:‏ أخوك فوجد ، فاحملها في البيت على هذا ليصحّ إضمار الفعل المفسّر، وفي حمل البيت عليه تقويةٌ لما ذهب إليه سيبويه من أن أمّا في البيت إنّما هي أن الناصبة ضمّت إليها ما، إلاّ أن القول بزيادتها ليس من مذهبي‏.‏

وقال ابن الحاجب في اماليه‏:‏ دخول الفاء هنا في المعنى كدخولها في جواب الشرط، لأنّ قولك لأن كنت منطلقاً انطلقت، بمعنى قولك‏:‏ إن كنت منطلقاً انطلقت، لأن الأول سببٌ للثاني في المعنى، فلمّا كان كذلك دخلت دلالةً على السّبييّة كما تدخل في جواب الشرط، فلهذا المعنى جاءت الفاء بعد الشرط المحقّق والتعليل، وهي لهما جميعاً في المعنى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ قال عليّ بن عبد الرّحمن‏:‏ عندي فيه وجهٌ آخر، وهو أن تجعل الفاء جواباً لما دلّ عليه حرف النّداء المقدّر، من التنبيه والإيقاظ، كأنّه قال‏:‏ تنبّه وتيقظ‏.‏ فإنّ قومي لم تأكلهم الضبّع‏.‏ وفيه نظر‏.‏

وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل‏:‏ الفاء لتعليل لم أذلّ المقدّر، والمعنى‏:‏ لكونك ذا نفر لم أذلّ، فإنّ قومي‏.‏ كذا في الإقليد‏.‏

ويجوز أن أن تكون الفاء جزاء الشرط في قوله‏:‏ أمّا أنت، بناءً على مذهب الكوفييّن‏:‏ من أنّ أصل أن في هذا إن المكسورة التي للجزاء وأنّها إنّما تفتح إذا دخلت عليها ما، ليلها الاسم‏.‏ ويجيزون أمّا زيد قائماً أقم معه بفتح الهمزة‏.‏

وقال عليّ بن عبد الرّحمن‏:‏ وفي البيت عندي حذف يقوم من بقّيته الدّلالة عليه، وهو بطرت وبغيت وفخرت، وبه يتعلق الجارّ، ثمّ استأنف فقال‏:‏ إن قومي الخ‏.‏

وقوله‏:‏ أبا خراشة بضم الخاء المعجمة منادى بحذف حرف النّداء المقدّر‏.‏

وأبو خراشة كنيةٌ، واسمه خفاف بن ندبة بضمّ الخاء المعجمة وتخفيف الفاء‏.‏ وندبة بفتح النون وسكون الدال بعدها موحّدة، وهي اسم أمّه اشتهر بها‏.‏ وخفاف صحابيّ شهد فتح مكّة مع النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه لواء بني سليم، وشهد حنيناً والطائف أيضاً، وهو ممن ثبت على إسلامه في الرّدّة، وهو أحد فرسان قيس وشعرائها‏.‏ وكان أسود حالكاً، وهو أحد أغربة العرب الثلاثة، وهو ابن عمّ الخنساء الصّحابيّة الشّاعرة، وتأتي له ترجمة أبسط ممّا هنا في محله إن شاء الله تعالى‏.‏ وأنت اسم لكان المحذوفة، وذا نفر خبرها‏.‏ وعند ابن جنّي هما معمولان لما الواقعة عوضاً من الفعل، ومصلحة للّفظ لتزول مباشرة أن الاسم وهذه عبارته في الخصائص‏:‏ فإن قلت‏:‏ بم ارتفع وانتصب‏:‏ أنت منطلقاً‏؟‏ قيل بما، لأنها عاقبت الفعل الرافع النّاصب، فعملت عمله من الرفع والنّصب؛ وهذه طريقة أبي عليّ وجلّة أصحابنا، من قبل أنّ الشيء إذا عاقب الشيء ولي من الأمر ما كان المحذوف يليه؛ من ذلك الظرف إذا تعلّق بالمحذوف، فإنّه يتضمّن الضمير الذي كان فيه، ويعمل ما كان يعمله‏:‏ من نصبه الحال والظرف، وعلى ذلك صار قوله‏:‏ فاه إلى في من قوله‏:‏ كلمته فاه إلى فيّ ، ضامناً للضمير الذي كان في جاعلاً لّما عاقبه‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ وعلى هذا يلغز فيقال‏:‏ هل تعرف ما في كلام العرب رافعةً للاسم وناصبه للخبر، وليست بالنافية التي يعملها أهل الحجاز، بل هي موجبةٌ لا نافية‏؟‏‏.‏

وروى أبو خليفة الدّينوريّ في كتاب النبات وتبعه ابن دريد في الجمهرة‏:‏ أبا خراشة أما كنت ذا نفرٍ وعليها فلا شاهد في البيت، وما زائدة‏.‏ وهذه الرواية تؤيّد قول الكوفييّن القائلين إن المفتوحة شرطيّة يجازى بها‏.‏

ومن الغرائب ما نقله صاحب نفحات الأرج، في شرح أبيات الحجج عن الأصمعيّ أنّ العرب تجازي بأنت فتقول‏:‏ ما أنت منطلق أنطلق معك‏.‏ وهذا نادر ولا يعتبر، فإن المجازاة لا تقع إلاّ على الفعل، وأمّا الأسماء فإنّها لا يصحّ عليها المجازاة‏.‏ كذا في شرح أبيات الموشح ‏.‏ والنفر قال الفرّاء‏:‏ نفر الرجل‏:‏ رهطه، ويقال لعدّة من الرّجال من ثلاثة إلى عشرة، وهذا هو المشهور‏.‏ والضّبع قال حمزة الأصبهاني في أمثاله التي على وزن أفعل عند قوله‏:‏ أفسد من الضّبع‏:‏ إنها إذا وقعت في الغنم عاثت ولم تكتف بما يكتفي به الذئب‏.‏ ومن إفسادها وإسرافها فيه استعارت العرب اسمها للسنة المجدبة، فقالوا‏:‏ أكلتنا الضبع‏.‏

وقال ابن الأعرابيّ‏:‏ ليس يريدون بالضّبع السنة، وإنّما هو أنّ الناس إذا أجدبوا ضعفوا عن الانتصار، وسقطت قواهم، فعاثت فيهم الضباع والذّئاب، فأكلتهم، ومنه قوله‏:‏

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر *** فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

أي‏:‏ إنّ قومي ليسوا بضعافٍ تعيث فيهم الضباع والذئاب‏.‏ وإذا اجتمع الذّئب والضبع في الغنم سلمت الغنم، ومنه قولهم اللهمّ ذئباً وضبعاً، أي‏:‏ اجمعهما في الغنم؛ لأنّ كلاًّ منهما يمنع صاحبه‏.‏

وهذا البيت من أبيات للعبّاس بن مرداس السّلميّ، لا للهذليّ كما زعم بعض شرّاح أبيات المفصل‏.‏

وبعده‏:‏

السّلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

وهذا البيت استشهد به البيضاوي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا في السّلم كافةً على أنّ السّلم تؤنث كالحرب‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ السلم الصلح تفتح وتكسر وتذكّر وتؤنث‏.‏

وكذلك استشهد بن ابن السّكّيت في إصلاح المنطق قال التّبريزيّ في أيضاح الإصلاح‏:‏ الجرع‏:‏ جمع جرعة‏:‏ وهي ملء الفم‏.‏ يخبره أنّ السلم هو فيها وداع ينال من مطالبه ما يريد، فإذا جاءت الحرب قطعته عن لذاته وشغلته بنفسه‏.‏

وهذا تحريضٌ على الصلح وتثبيط على الحرب‏.‏ وأراد بأنفاسها أوائلها، ومن في الموضعين ابتدائية‏.‏

والعباس بن مرداس صحابيّ أسلم قبل فتح مكة بيسير، وهو ممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السابع عشر من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخمسون بعد المائتين

البسيط

إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحل *** فالله يكلأ ما تأتي وما تدر

على أنه يدل لصحة قول الكوفيين‏:‏ كون أن المفتوحة الهمزة أداة شرط، مجيء الفاء في جوابها مع عطف أما أنت على إما أقمت بكسر الهمزة‏.‏

قد صوّب ابن هشام أيضاً في المغني رأي الكوفيين، كما صوّب الشارح المحقّق، واستدلّ لهم بعين ما استدل به الشارح، وهذا من توافق الخاطر كما يقال قد يقع الحافر موضع الحافر ‏.‏ وهذه عبارته‏:‏ ويرجح مذهب الكوفييّن عندي أمور‏:‏ أحدها توارد إن المفتوحة والمكسورة على المحلّ الواحد والأصل التوافق، وقرئ بالوجهين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تضلّ إحداهما ، ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم ، أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ‏.‏ وروي بالوجهين قوله‏:‏ الطويل أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا الثاني مجيء الفاء بعدها كثيراً كقوله‏:‏

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر *** فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

الثالث عطفها على أن المكسورة في قوله‏:‏

إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحل *** فالله يكلأ ما تأتي وما تدر

الرواية بكسر إن الأولى وفتح الثانية‏.‏ فلو كانت المفتوحة مصدريّة لزم عطف المفرد على الجملة‏.‏ وتعسّف ابن الحاجب في توجيه ذلك فقال‏:‏ لما معنى قولك إن جئتني أكرمتك، وقولك أكرمك لإتيانك إيّاي واحداً، صحّ عطف التعليل على الشرط في البيت‏.‏ وكذلك تقول‏:‏ إن جئتني وأحسنت إليّ أكرمتك، ثم تقول‏:‏ إن جئتني ولإحسانك إليّ أكرمتك، وتجعل الجواب لهما‏.‏

وما أظنّ أنّ العرب فاهت بذلك يوماً‏.‏ انتهى كلام ابن هشام‏.‏

وكلام ابن الحاجب الذي نقله هو في الإيضاح شرح المفصل ، وقد اختصر كلامه، وهذه عبارته‏:‏ وقد روي قوله‏:‏

إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحل *** فالله يكلأ ما تأتي وما تدر

بكسر الأول وفتح الثاني‏:‏ أمّا كسر الأوّل فلأنّه شرط فوجب كسره، ودخول ما عليه كدخولها في قولك‏:‏ أمّا أنت منطلقاً‏.‏ وقد تقدّم ذكره‏.‏

وقوله‏:‏ فالله يكلأ ما تأتي الخ فجواب الشرط معلّل بقوله‏:‏ أمّا أنت مرتحلا‏.‏ وصحّ أن يكون لهما جميعاً من حيث كان الشرط والعلّة في معنى واحد، ألا ترى أن قولك إن أتيتني أكرمتك‏.‏ بمعنى قولك‏:‏ أكرمتك، لأجل إتيانك‏؟‏ فإذا ثبت أنّ الشرط والتّعليل بمعنى واحدٍ صحّ أن تعطف أحدهما على الآخر، وتجعل الجواب لهما جميعاً في المعنى، فصار مثل قولك‏:‏ إن أكرمتني وأحسنت إليّ، أكرمتك، وإلاّ أنّه وضع موضع أحسنت إليّ لفظ التعليل، فصار كأنك قلت‏:‏ إن أكرمتني فلأجل إتيانك، فأنا أكرمك‏.‏ وذلك سائغ‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقد ناقش الدّمامينيّ كلام ابن هشام في الأدلّة الثلاثة بالتعسّف كما لا يخفى على من تامله‏.‏ والكلاءة بالفتح والمدّ‏:‏ الحفظ، وما موصولة والعائد محذوف، أي‏:‏ ما تأتيه وما تذره‏.‏ وتذر بمعنى تترك، وقد أماتوا ماضيه، ومصدره، واسم فاعله، واسم مفعوله كيدع‏.‏

وهذا البيت مع استفاضته في كتب النحو لم أظفر بقائله ولا بتتمته والله أعلم به‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الحادي والخمسون بعد المائتين

وهو من شواهد سيبويه‏:‏

ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها

على أن زيادة ما للتأكيد بمنزلة اللام، ولأجلها جاز تأكيد الفعل بالنون‏.‏ وسيأتي نقل كلام سيبويه في آخر الشاهد السابع والأربعين بعد التسعمائة في نون التوكيد‏.‏

قال الصاغانيّ - تبعاً لصاحب وغيره -‏:‏ الشكير‏:‏ ما ينبت حول الشجرة من أصلها، قال‏:‏

إذا مات منهم ميتٌ سرق ابنه *** ومن عضةٍ ما ينبتنّ شكيرها

يريد أنّ الابن يشبه أباه، فمن رأى هذا ظنه فكأن الابن مسروق‏.‏

وفي فعله يقال‏:‏ شكرت الشجرة تشكراً، من باب فرح، أي‏:‏ خرج منها الشّكير‏.‏ وهذا التفسير منقول من تهذيب الأزهري ‏.‏

وأورد الزمخشريّ المصراع الثاني في أمثاله وقال‏:‏ والعضة بالهاء والتاء جميعاً‏.‏ والشكير‏:‏ الورق‏.‏

ويروى‏:‏ في عضةٍ ما ينبت العود ، يضرب في مشابهة الرجل أباه‏.‏

وكذلك اقتصر ابن هشام في حواشي التسهيل عليه، لكنّه قال‏:‏ هذا مثلٌ لمن أظهر خلاف ما أبطن‏.‏ والعضة‏:‏ شجرة، وشكيره‏:‏ شوكها، وقيل صغار ورقها‏.‏ يعني أنّ كبار الورق إنّما تنبت من صغارها، أي‏:‏ ما ظهر من الصغار يدلُّ على الكبار‏.‏

وهذا التفسير مبني على قطع النظر عن المصراع الأوّل‏.‏

وقوله‏:‏ سرق ابنه اختلف في ضبطه، فالجمهور على أنّه بالبناء للمفعول بتقدير سرق منه، وضبطه الخطيب التّبريزيّ بالبناء للفاعل، على تقدير سرق ابنه صورته وشمائله‏.‏

وضبطه بعضهم‏:‏ شرف ابنه بالمعجمة والفاء والبناء للمعلوم، من الشرف وهو المجد، ولا يخفى ركاكته‏.‏ والعضة‏:‏ واحدة العضاه عضاهة وعضهة بكسر فسكون، وعضة، بحذف الهاء الأصلية، كما حذف من الشّفة‏.‏ وعلى هذا فالعضة في المثل بالتاء لا بالهاء‏.‏

وروى الأسود أبو محمد الأعرابيّ هذا البيت في كتاب السّلة والسّرقة على ما تقدّم، وقال‏:‏ ومثل آخر‏:‏

ومن عضةٍ ما ينبتنّ شكيره *** قديماً ويقتطّ الزّناد من الزّند

ولم يورد شرّاح أبيات سيبويه هذا المصراع في شواهده‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني والخمسون بعد المائتين

وهو من شواهد سيبويه‏:‏

من لد شولاً فإلى إتلائها

على أنّ كان قد تحذف بعد لد كما هنا، والتقدير‏:‏ من لد كانت شولاً‏.‏

قد ذكر الشارح في الظروف أنّ لدن بجميع لغاتها معناها أوّل غاية زمان ومكان، وقلّما يفارقها من، فإذا أضيفت إلى الجملة تمحّضت للزمان، لأنّ ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة إلاّ حيث‏.‏

ويجوز تصدير الجملة بحرفٍ مصدريّ لما لم يتمحّض لدن في الأصل للزمان؛ فنصب هنا شولاً لأنّه أراد الزّمان، ولد إنّما يضاف إلى ما بعده من زمان يتصل به ومكان إذا اقترنت به إلى، والشّول لا يكون زماناً ولا مكاناً، فلما لم يجز أن يضاف لد إليها نصبها على أنّها خير لكان المقدّرة‏.‏ والشّول بفتح الشين المعجمة وسكون الواو‏:‏ اسم جمع شائلة بالناء، وهي الناقة التي ارتفع لبنها وجفّ ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر وثمانية‏.‏ واسم كان المقدّرة ضمير النوق في كلامٍ تقدّم قبله، وأضمرت كان هنا لوقوعها في مثله كثيراً، وحذفت نون لدن لكثرة الاستعمال‏.‏

وقيل شولاً هنا مصدر شالت الناقة بذنبها، أي‏:‏ رفعته للضّراب، فهي شائل بغير تاء، والجمع شوّل، كراكع وركع، فيكون التقدير‏:‏ من لدن شالت شولاً، فليس فيه حذف كان مع اسمها بل هو من باب حذف عامل المصدر المؤكّد‏.‏ والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة، كجئتك صلاة العصر‏.‏

قال أبو عليّ‏:‏ الأشبه أن يكون المصدر في نحو هذا على فعلان، فلذلك لم يقوّه سيبويه، قال ابن هشام في شرح شواهده‏:‏ وقد يرجّح كونه من باب حذف عامل المصدر المؤكد، وردّ بأنه من لد شولٍ بالخفض ولا يقال من لد النّوق فإلى إتلائها‏.‏

ويجاب بأن التقدير من لدن شولان شول وزمان شول وكون شول، فحذف المضاف‏.‏ والتقدير الأخير أولى ليتّحد المعنى في الروايتين ولكن يحتاج على هذا التقدير إلى الخبر، أي‏:‏ موجودة‏.‏ فإن قدّر الكون مصدر كان التامّة، لم يحتج إلى ذلك، ولكن لا يقع التوفيق بين الروايتين في التقدير‏.‏ وقد يرجّح الثاني برواية الجرمي من لد شولا بغير تنوين على أنّ أصله شولاء بالمد فقصره للضرورة، ولكن هذه الرواية تقتضى أن المحدّث عنه ناقة واحدة‏.‏

ومن الغريب أنّ بعضهم زعم أن انتصاب شولاً بعد لد على التمييز والتشبيه بالمفعول به، كانتصاب غدوة بعدها في قولهم لدن غدوةٌ وأنه لا تقدير في هذا البيت‏.‏ وهذا مردود باتفاقهم على اختصاص هذا الحكم بغدوة وأنه لم يسمع غدوة مع حذف النون من لدن‏.‏

وتقدير الشارح المحقّق كان بدون أنّ المصدرية هو الصّواب خلافاً لسيبويه فإنّه قال‏:‏ التقدير من لد أن كانت شولاً‏.‏

قال ابن الدهّان‏:‏ الحامل له على هذا التقدير أنّ لدن لا تضاف عنده إلى الجمل، وردّ هذا الحامل بلزوم أن يقدّر سيبويه أن في قوله‏:‏ الطويل لدن شبّ حتّى شاب سود الذّوائب ونحوه، وهو كثير، وذلك بعيد‏.‏

واختلف فب تقدير سيبويه‏:‏ قال الشاطبيّ في شرح الألفيّة فقيل هو تقديرٌ معنوي لا إعرابيّ، لأنّ شولاً يصير على ذلك التقدير من صلة أن، والموصول لا يحذف ويبقى بعض الصلة، نصّ عليه سيبويه في باب الاستثناء في قوله‏:‏ إلاّ الفرقدان وإنّما التقدير‏:‏ من لد كانت، أي‏:‏ من لد كونها شولاً، لأن الجملة تقدّر بالمصدر إذا أضيف إليها الظرف‏.‏ هذا مأخذ ابن خروف وابن الضّائع وابن عصفور، وهو رأي الناظم‏.‏

وظاهر السّيرافيّ وجماعة أنّه تقديرٌ إعرابيٌّ لأنّه قدّرها بأن كما قدّرها سيبويه‏:‏ من لد أن كانت شولاً‏.‏ قال‏:‏ والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة نحو مقدم الحاج، وخلافة المقتدر، وصلاة العصر‏.‏ وهذا رأي الشّلوبين وابن أبي غالب، قال ابن مالك‏:‏ وعندي أن تقدير أن مستغنى عنها كما يستغنى عنها بعد مذ‏.‏

وفي القول الثاني نظر، فإنّ الإشكال باقٍ بحاله ولم يجيبوا عنه‏.‏ فتأمّل‏.‏

وقوله‏:‏ فإلى إتلائها بكسر الهمزة هو مصدر أتلت الناقة إذا تلاها ولدها أي‏:‏ تبعها فهي متلية، والولد تلو، بكسر فسكون، والأنثى تلوة، والجمع أتلاء بالفتح‏.‏

وهذا البيت من الرجز المشطّر، وهو من الشواهد الخمسين التي لا يعرف قائلها ولا تتمتها‏.‏ والله أعلم‏.‏

المنصوب بلا التي لنفي الجنس

أنشد فيه، وهو

الشاهد الثالث والخمسون بعد المائتين

أودى الشّباب الذي مجدٌ عواقبه *** فيه نلذُّ ولا لذّات للشّيب

على أن جمع المؤنث السالم يبنى على الفتح مع لا، بدون تنوين، كلذّات في البيت، فإنّه مبنيّ مع لا على الفتح، ورواه شرّاح الألفيّة بالفتح والكسر، كما يجوز مثله في الجمع المؤنث السالم المبنيّ مع لا‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لسلامة بن جندل السّعديّ عدّتها اثنان وثلاثون بيتاً، وهي مسطورة في المفضّليّات أوّلها‏:‏

أودى الشّباب حميداً ذو التّعاجيب *** أودى وذلك شأؤٌ غير مطلوب

ولى حثيثاً وهذا الشّيب يطلبه *** لو كان يدركه ركض اليعاقيب

أودى الشّباب الذي مجدٌ عواقبه *** فيه نلذُّ ولا لذّات للشّيب

يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ *** ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب

قوله‏:‏ أودى ، أي‏:‏ ذهب واضمحلّ، وحميداً حالٌ من الشباب، أي‏:‏ محموداً‏.‏ وكرّر أودى للتأكيد، والمراد به التحسّر والتفجع لا الإخبار المجرّد‏.‏ قال ابن الانباريّ‏:‏ التعاجب العجب، يقال‏:‏ إنّه جمع لا واحد له‏.‏

وروى‏:‏ ذو الأعاجيب جمع أعجوبة، والمعنى‏:‏ كان الشباب كثير العجب، يعجب الناظرين إليه ويروقهم‏.‏ واسم الإشارة لمصدر أودى‏.‏ والشّأو مهموز الوسط‏:‏ الطّلق‏.‏ يقال‏:‏ جرى الفرس شأو وشأوين، أي‏:‏ طلق وطلقين، ويأتي بمعنى السّبق أيضاً، يقال شأوته، أي‏:‏ سبقته‏.‏ يقول‏:‏ وذلك الإبداء شأوه سابق قد مضى لا يدرك ولا يطلب‏.‏ وروى بدل أودى ولّى ‏.‏

وقوله‏:‏ ولّى حثيثاً الخ ، أي‏:‏ ذهب الشباب وأدبر حثيثاً سريعاً‏.‏ وجواب لو محذوف، أي‏:‏ لطلبته ولكنه لا يدرك‏.‏ واليعاقيب جمع يعقوب، وهو ذكر الحجل وخصّ اليعقوب لسرعته‏.‏

قال ابن الأنباريّ‏:‏ وقال عمارة‏:‏ اليعاقيب يعنى به ذوات العقب من الخيل‏.‏ والعقب أن يجيء جريٌ بعد جري‏.‏

وروى أبو عمرو‏:‏ ركض اليعاقيب بالنصب‏.‏ يقول‏:‏ لو أدرك طالب الشباب شبابه بركضٍ كركض اليعاقيب لطلبه، ولكن الشباب إذا ولّى لم يدرك‏.‏ ويقال‏:‏ إن معناه ولّى الشباب حثيثاً ركض اليعاقيب وهذا الشّيب يتبعه‏.‏ ويروى‏:‏ جري اليعاقيب ‏.‏

وقوله‏:‏ أودى الشباب‏.‏ الخ قال ابن الأنباريّ‏:‏ يقول‏:‏ ذهب الشباب الذي إذا تعقبت أموره وجد في عواقبه الخير إمّا بغزو ورحلة ووفادة إلى ملك‏.‏ وعواقبه‏:‏ أواخره‏.‏

وقال أحمد‏:‏ قوله مجدٌ عواقبه ، أي‏:‏ آخر الشباب محمود ممجّد إذا حلّ الشيب وذكر الشباب، فحمد الشباب لذمّه، والمجد‏:‏ كرم الفعل وكثرة العطاء‏.‏ يقال في مثل‏:‏ في كلّ شجر نارٌ، واستمجد المرخ والعفار أي‏:‏ كثرت ناراهما‏.‏ وإنّما يمجد الرّجل بفعله، وإنّما يمكنه الفعال وهو شابُّ قويٌّ نشيط‏.‏

وقوله‏:‏ فيه نلدّ بفتح اللام، أي‏:‏ إنّما تكون اللّذاذة والطّيب في الشباب، والجملة استئناف بيانيّ‏.‏ والشّيب بالكسر‏:‏ جمع أشيب، وهو الذي ابيضّت لحيته، يريد ليس في الشّيب ما ينتفع به، إنّما فيه الهرم والعلل‏.‏ وإنّما جمع اللّذّة لأنه أراد أنواع اللّذائذ‏.‏

وروي أيض‏:‏ ذاك الشباب الذي مجدٌ عواقبه ‏.‏ ولم يرو أحدٌ إنّ الشّباب بدل أودى فيما رأينا‏.‏ وزعم ابن هشام في شرح شواهده أن الرواية بإنّ، وأن ابن الناظم حرّفه فرواه أودى الشّباب قال‏:‏ ولولا أنّ لبقي قوله فيه نلذ غير مرتبط بشيء‏.‏ وهذا كما ترى عسفٌ في الرواية وتخطئة للمصيب‏.‏

وقوله‏:‏ يومان يوم الخ ، قال ابن الأنباريّ عن الرستميّ‏:‏ فسّر العواقب بقوله‏:‏ يومان وبما بعده في البيتين فقال‏:‏ يومٌ في المجالس خطيباً ويوم سير إلى الأعذاء، والكبير يعجز عن هذا‏.‏ والمقامة بالفتح‏:‏ المجلس، وروى أبو عمرو بالضم بمعنى الأغقامة‏.‏ والأندية‏:‏ الأفنية‏.‏ والنديّ والنّادي‏:‏ المجلس‏.‏

قال أحمد‏:‏ أراد به اللّهو والتنعّم، وتأويب‏:‏ صفة سير، وهو السّرعة في السير والإمعان فيه، يقال‏:‏ أوّب الرجل في سفره تأويباً، إذا أمعن‏.‏ وقال أحمد‏:‏ أوّب‏:‏ وصل الليل بالنهار مع الإمعان‏.‏

وفي هذه القصيدة أبيات من شواهد أدب الكاتب وغيره‏.‏ وسلامة هذا قال يعقوب بن السّكّيت‏:‏ هو سلامة بن جندل بن عبد عمرو بن عبيد بن الحارث بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، قال‏:‏ وكان من فرسان العرب المعدودين وأشدّائهم المذكورين‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ سلامة بن جندل جاهليّ قديم، وهو من فرسان تميم المعدودين، وأخوه أحمر بن جندل من الشعراء والفرسان، وكان عمرو بن كلثوم أغار على حيٍّ من بني سعد بن زيد مناة فأصاب فيهم، وكان فيمن أصاب الأحمر بن جندل‏.‏ وكان سلامة أحد نعّات الخيل، وأجود شعره قصيدته التي أوّلها‏:‏

أودى الشّباب حميداً ذو التّعاجيب *** أودى وذلك شأوٌ غير مطلوب

انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الرابع والخمسون بعد المائتين

البسيط

لو لم تكن غطفانٌ لا ذنوب له *** إذن للام ذوو أحسابها عمرا

على أنّ لا هنا زائدة مع أنّ النكرة بعدها مبينة معها على الفتح‏.‏ قال ابن عصفور في المقرّب‏:‏ أنشد أبو الحسن الأخفش‏:‏

لو لم تكن غطفانٌ لا ذنوب له *** إذن للام ذوو أحسابها عمرا

والمعنى لها ذنوب إليّ‏.‏ وعمل لا الزائدة شاذّ‏.‏

وقد تكلّم أبو عليّ الفارسيّ في المسائل المنثورة على هذا البيت بكلام فيه قلاقة وهو قوله‏:‏ يعترض في هذا البيت معترضٌ فيقول‏:‏ الكلام إيجاب، ومعناها أنّ لغطفان ذنوباً، فكان الكلام إيجاباً، ولا لا تدخل على الإيجاب‏.‏ فوجه ما قاله أنه لم يرد هذا، وإنّما أراد بقوله لا ذنوب لها أنّ الكلام الأوّل قد تمّ وتقضّى، فأتى بالجملة الثانية وهي الجحد، فجعلها خبراً للنكرة حيث كانت جملة‏.‏

ومثل ذلك في الجحد قد قالت العرب‏:‏ كان زيد يقوم أبوه، فقد جعل يقوم أبوه جملة في موضع الخبر وإن كان جحداً فكذلك جاز له أن يجعل النفي في موضع خبر الإيجاب وإن كان إيجاباً‏.‏ ولا يلزم تأويل من تأوّل هذا فقال‏:‏ إن المعنى ذلك لأنّه وجه من القياس، وهو ما ذكرنا، فلا يلزمه التأويل لأن أيضاً ينساع على ذلك فيجعل إيجاباً، لأنّ الإيجاب والنفي جميعاً إخبارٌ، فلك أن تجعل كل واحد خبراً عن الآخر من حيث كان ذلك في الجحد‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للفرزدق هجا بها عمر بن هبيرة الفرازيّ أوّلها‏:‏

يا أيها النابح العاوي لشقوته *** إليك أخبرك عمّا تجهل الخبرا

لو لم تكن غطفانٌ لا ذنوب له *** إذن للام ذوو أحسابها عمرا

إلى أن قال‏:‏

جهز فإنك ممتازٌ ومنتجعٌ *** إلى فزارة عيراً تحمل الكمرا

إنّ الفزاريّ ما يشفيه من قرمٍ *** أطايب العير حتّى ينهش الذّكرا

إنّ الفزاريّ لو يعمى فيطعمه *** أير الحمار طبيب أبرأ البصرا

النابح والعاوي ، من نبح الكلب وعوى بمعنى صوّت‏.‏ وإليك اسم فعل وأصل معناه‏:‏ ضمّ رحلك وثقلك إليك واذهب عني‏.‏ وأخبرك جزم في جوابه، والخبر مفعول أخبرك، وعمّا متعلق بما بعده‏.‏

وقوله‏:‏ لو لم تكن غطفان الخ لا من حيث المعنى زائدة، واصل الكلام لو لم تكن ذنوبٌ لغطفان، وجملة لا ذنوب لها خبر الكون‏.‏ وغطفان أبو قبيلة ممنوع من الصرف للعلميّة والزيادة، وصرفه هنا للضرورة‏.‏ وهو غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، وهو الجدّ الأعلى لفزارة، لأنّ فزارة هو فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان‏.‏ وفزارة اسمه عمرو، ضربه أخٌ له ففزره فسمّي فزارة‏.‏

وأراد بالذّنب الإساءة، أي‏:‏ لو كانت غطفان غير مسيئة إليّ للام أشرافها عمر ابن هبيرة في تعرّضه إليّ ومنعوه عنّي‏.‏ وعمر عامل من عمّال سليمان بن عبد الملك من بني أميّة‏.‏ وقوله‏:‏ إذن للام الخ جواب لو الشرطيّة، وكثيراً ما يصدّر جوابها بإذن، واللام للتأكيد، واللّوم التعنيف‏.‏

وروى أيضاً‏:‏ إليّ لام ذوو أحسابها عمر وذوو فاعل لام جمع ذو بمعنى صاحب‏.‏ والأحساب‏:‏ جمع حسب، وهو ما يعد من المآثر؛ وهو مصدر حسب على وزن كرم‏.‏

قال ابن السّكّيت‏:‏ الحسب والكرم يكونان في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف‏.‏ ورجل حسيب‏:‏ كريم بنفسه‏.‏ قال‏:‏ وأمّا المجد والشرف فلا يوصف بهما الشخص إلاّ إذا كان فيه وفي آبائه‏.‏ وقال الأزهريّ‏:‏ الحسب الشرف الثابت له ولآبائه‏.‏ وعمر مفعول لام والألف للإطلاق‏.‏

وقوله‏:‏ جهّز فإنك الخ الممتار‏:‏ اسم فاعل من امتار الميرة لنفسه بالكسر، وهي الطعام‏.‏ ومارهم ميراً من باب باع، إذا أتاهم بالميرة‏.‏ ومنتجع بمعنى منتفع، وأصله من انتجع القوم إذا ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه، وإلى متعلقة بجهّز، وعيرا مفعول جهّز، وهو بكسر المهملة‏:‏ القافلة، قالوا‏:‏ واصل العير الإبل التي تحمل الميرة ثم غلب على كل قافلة‏:‏ والكمر بفتح الكاف والميم‏:‏ جمع كمرة‏.‏

قال صاحب المصباح الكمرة الحشفة وزناً ومعنّى وربّما أطلقت الكمرة على جملة الذكر مجازاً‏.‏

والقرم بفتحتين مصدر قرم اللّحم من باب فرح، إذا اشتدّت شهوته له‏.‏ ومن للتعليل، وأطايب‏:‏ فاعل يشفيه، جمع أطيب‏.‏ والعير بفتح المهملة‏:‏ الحمار الوحشي‏.‏ وحتّى بمعنى إلاّ‏.‏ والنّهس مصدر نهست اللّحم من بابي ضرب ونفع، إذا أخذته بمقدّم الأسنان، والمعروف بالسين المهملة، وروي بالمعجمة أيضاً‏.‏

وبنو فزارة يرمون بأكل أير الحمار، وبسرقة الجار، وبنيك الإبل، كما قال سالم بن دارة‏:‏ الرجز

إنّ بني فزارة بن دبيان *** قد غلبوا النّاس بأكل الجردان

وسرق الجار ونيك البعران والجردان بضم الجيم‏:‏ وعاء قضيب الحمار‏.‏ وسيأتي إن شاء الله شرح هذا مفصلاً في باب المثنى‏.‏

وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخامس والخمسون بعد المائتين

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

بكت جزعاً واسترجعت ثمّ آذنت *** ركائبها أن لا إلينا رجوعها

على أن لا يجوز عدم تكريرها مع المفصول عند المبّرد وابن كيسان كما في البيت، وعند غيرهما شاذّ‏.‏

وقد أنشده سيبويه ومن تبعه على عدم تكرير لا مع المعرفة، وهو الوجه‏.‏

قال أبو عليّ في المسائل المنثورة‏:‏ إذا كان بعد لا معرفة ارتفعت المعرفة بالابتداء، وهو قولك‏:‏ لا أبوك، فيرتفع بالابتداء ويكون خبره مضمراً وتكون لا جواباً، كأنّه قال‏:‏ هل أبي، فقال‏:‏ لا أبوك‏.‏ فنفى أن يكون أباه‏.‏

وأما قول الشاعر‏:‏ بكت جزعاً واسترجعت ‏.‏ البيت، فرفع رجوعها بالابتداء وأضمر الخبر كأنّه قال‏:‏ موجود وواقع، وجعل إلينا تبييناً مثل قوله سبحانه إنّي لكما لمن النّاصحين ‏.‏

وزعم صدر الأفاضل في التحبير ، كما نقله عنه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل ، وبعضٌ آخر في شرح أبيات الموشح ، أنّ لا هنا ليست بالنافية للجنس إنّما هي التي تدخل على الفعل المضارع‏.‏ ورجوعها مرفوع على أنه فاعل فعل مضمر، تقديره ألاّ ترى أنّه لو لم تضمر فيه الوقوع للزم التناقص، وهذا لأنّ الإيذان يقتضي ألاّ يكون الرجوع في الحال متحققاً كما يقال‏:‏ هذه العارضة تؤذن بالاستسقاء، إذا لم يكن واقعاً، ولو لم يضمر الفعل فيه لاقتضت لا أن يكون انتقاء الرجوع في الحال متحقّقاً‏.‏

ولا يخفى أن هذا ليس من المواضع التي يحذف فيها الفعل ويبقى الفاعل‏.‏ ويندفع ما عدّه تناقصاً بجعل خبر رجوعها اسم فاعل من الوقوع‏.‏ فتأمّل‏.‏

وقوله‏:‏ بكت جزعاً هو مفعول مطلق نوعيُّ، أي بكاء جزع، ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله‏.‏ وروى‏:‏ قضت وطراً واسترجعت وفي الاسترجاع هنا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه من الاسترجاع عند المصيبة وهو قول إنا لله وإنا إليه راجعون ‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنه طلب الرّجوع من الرّحيل لكراهة فراق الأحبّة‏.‏

وقوله‏:‏ ثم آذنت الخ ، ركائبها فاعل آذنت، جمع ركوبة، وهي الراحلة التي تركب‏.‏ وآذنت بمعنى أشعرت وأعلمت‏.‏ جعل تهيؤ الإبل للرّكوب عليها كأنّه إعلامٌ منها بالفراق‏.‏ وفي إسناد الإيذان للرّكائب دون الحبيبة أمرٌ لطيف لا يخفى حسنه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ فيه حذف مضاف، أي‏:‏ اصحاب ركائبه وحداتها‏.‏ وهذا كالثّوب المغسول لا طراوة له ولا رونق‏.‏

وقوله‏:‏ أن لا إلينا الخ ، أن هنا مفسّرة للإيذان، وهي الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه‏.‏ وقال شرّاح أبيات المفصّل إنّما هي المخفّفة من الثقيلة، قالوا‏:‏ والأصل بأنه، والضمير للشأن‏.‏

والبيت ظاهره إخبارٌ ومعناه‏:‏ تأسف وتحسّر‏.‏ وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والخمسون بعد المائتين

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

وأنت امرؤٌ منّا خلقت لغيرن *** حياتك لا نفعٌ وموتك فاجعُ

على أنّ لا يجوز عدم تكريرها مع المنكّر غير المفصول مع إلغائها عند المبرّد وابن كيسان، وعند غيرهما شاذّ‏.‏

قال الأعلم‏:‏ وسوّغ الإفراد هنا أنّ ما بعده يقوم مقام التكرير في المعنى، لأنّ قوله وموتك فاجع دلّ على أنّ حياته لا تضرّ‏.‏ يقول‏:‏ هو منّا في النسب إلاّ أن نفعه لغيرنا، فحياته لا تنفعنا لعدم مشاركته لنا، وموته يفجعنا لأنّه أحدنا‏.‏

وقوله‏:‏ لا نفعٌ هو مبتدأ، وخبره محذوف، أي‏:‏ فيها، والجملة خبر قوله حياتك ‏.‏ وأكثر الرواية على إسقاط الواو أوّله على أنه مخروم وهو الصواب، لأنّه لم يتقدمه شيء حتى تكون الواو عاطفة‏.‏

وهذا البيت نسبه شرّاح أبيات الكتاب لرجل من بني سلول، ونسبه العسكريّ في كتاب التصحيف والأديب إبراهيم الحصريّ في زهر الآداب للضحّاك بن هنّام الرقاشيّ‏.‏

وزاد الحصريّ بعده بيتين وهم‏:‏ الطويل

وأنت على ما كان منك ابن حرّةٍ *** أبيٌّ لما يرضى به الخصم مانع

وفيك خصالٌ صالحاتٌ يشينه *** لديك جفاءٌ عنده الودُّ ضائع

قوله‏:‏ وأنت على ما كان الخ ، أي‏:‏ أنت مع ما كان منك إلينا من سوء المعاملة، ابن حرّة أبيّ ذو حميّة، مانع لما يرضى به الخصم‏.‏

قال بعض فضلاء العجمىفي شرح أبيات المفصّل‏:‏ المقول فيه هذا الشعر هو الحضنين بن المنذر، وقائله الضحّاك بن هنام‏.‏

وضبط العسكريّ ابن هنّام بفتح الهاء والنون المشدّدة، وقد وقع في بعض كتب الأدب مصحفاً بهمّام بالميم بدل النون‏.‏

وشذّ ياقوت الحمويّ فنسبه في محتضر جمهرة الأنساب إلى جنف بن مالك ابن الحارث بن ثعلبة، وينتهي نسبه إلى قضاعة إحدى قبائل اليمن‏.‏

وضبط العسكري في كتاب التصحيف المتعلق بعلم الحديث الحضين بن المنذر بقوله‏:‏ حضين الحاء مضمومة غير معجمة والضاد معجمة مفتوحة ونون، هو حضين ابن المنذر أبو ساسان الرّقاشيّ، من سادات ربيعة، وكان صاحب راية أمير المؤمنين عليّ يوم صفيّن، وفيه يقول أمير المؤمنين رضي الله عنه‏:‏ الطويل

لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلّه *** إذا قيل قدّمها حضين تقدّما

ثم ولاّه إصطخر، وكان يبخل، وفيه يقول زياد الأعجم‏:‏ الطويل

يسدّ حضينٌ بابه خشية القرى *** بإصطخر والشّاة السّمين بدرهم

وفيه يقول الضحّاك بن هنّام‏:‏ الطويل

وأنت امرؤٌ منّا خلقت لغيرن *** حياتك لا نفعٌ وموتك فاجع

وروى الحديث عن عثمان وعليّ، وعن مجاشع بن مسعود، والمهاجر بن قنفذ‏.‏

وروى عنه الحسن؛ وعبد الله بن الداناج، وعبد العزيز بن معمر، وعليّ بن سويد بن منجوف‏.‏

ولا أعرف من يسمّى حضيناً بالضاد المعجمة غيره، وغير من ينسب إليه من ولده‏.‏ ومن أولاده‏:‏ يحيى بن حضين، وساسان بن حضين، وعياض بن حضين‏.‏ وفي يحيى يقول الفرزدق‏:‏ مجزوء الرمل

واصرف الكأس عن الف *** تر يحيى بن حضين

انتهى ما أورده العسكريّ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

من صدّ عن نيرانه *** فأنا ابن قيس لا براح

على أن لا هنا بمهنى ليس ولهذا لم تكرّر‏.‏ قال الشارح المحقّق‏:‏ قد تقدّم أنه لم يثبت عمل لا عمل ليس‏.‏

وهذا مخالف لقول أبي عليّ في المسائل المنثورة إنّ لا في هذا البيت أريد بها ليس والخبر محذوف، أي‏:‏ لنا، وكذلك قوله في الجحيم حين لا مستصرخ، أراد لنا‏.‏

وهذا البيت قد تقدّم الكلام عليه في الشاهد الحادي والثمانين في اسم ما ولا المشبهتين بليس‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السابع والخمسون بعد المائتين

وهو من أبيات سيبويه‏:‏ البسيط

تركتني حين لا مالٍ أعيش به *** وحين جنّ زمان النّاس وكلبا

على أنّ عدم تكرّر لا في مثل هذا شاذ‏.‏

وأنشده س على إضافة حين إلى المال وإلغاء لا وزيادتها في اللفظ‏.‏ وهذه عبارة س‏:‏ اعلم أنّ لا قد تكون في بعض المواضع هي والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد، وذلك قولهم‏:‏ أخذته بلا ذنب، وغضبت من لا شيء، وذهبت بلا عتاد، والمعنى ذهبت بغير عتاد‏.‏ وتقول إذا قللّت الشيء‏:‏ ما كان إلاّ كلاشيء، وإنّك ولا شيئاً سواءٌ‏.‏ ومن هذا النحو قول الشاعر‏:‏

تركتني حين لا مالٍ أعيش به *** وحين جنّ زمان النّاس وكلبا

انتهى وجوّز أبو عليّ الفارسيّ في المسائل المنثورة الحركات الثلاث في مال، قال‏:‏ الجرّ على الإضافة، والرفع على أن تضيف حين إلى الجمل ولا عاملة عمل ليس، والنصب تجعله كما كان مبني ولا تعمل الإضافة، كما تقول جئت بخمسة عشر فلا تعمل الباء‏.‏ انتهى‏.‏ وجنّ بضم الجيم من الجنون يقال‏:‏ أجنّه الله بالألف فجنّ بالبناء للمفعول فهو مجنون‏.‏ وكلبا الكلب‏:‏ مصدر كلب كلباً فهو كلبٌ، من باب تعب، وهو داءٌ يشبه الجنون يأخذه فيعقر الناس‏.‏ ويقال لمن يعقره كلب أيضاً‏.‏ وكلب الزمان‏:‏ شدّته‏:‏ وضرب الجنون والكلب مثلاً لشدّة الزّمان‏.‏

وهذا البيت من قصيدةٍ لأبي الطفيل عامر بن وائلة الصحابيّ، رثى بها ابنه طفيلاً‏.‏

وهذه أبيات منها‏:‏

خلّى طفيلٌ عليّ الهمّ فانشعب *** وهدّ ذلك ركني هدّةً عجبا

وابني سميّة لا أنساهما أبد *** فيمن نسيت وكلّ كان لي وصبا

فاملك عزاءك إن رزءّ نكبت به *** فلن يردّ بكاء المرء ما ذهبا

وليس يشفي حزيناً من تذكره *** إلاّ البكاء إذا ما ناح وانتحبا

فإن سلكت سبيلاً كنت سالكه *** ولا محالة أن يأتي الذي كتبا

فما لفظتك من ريّ ولا شبعٍ *** ولا ظللت بباقي العيش مرتقبا

فارقتني حين لا مال أعيش به ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

روى الأصبهانيّ بسنده في الأغاني أنّ أبا الطّفيل دعيّ إلى مأدبة فغنّت فيها قينة بهذا الشعر، فبكى أبو الطفيل حتّى كاد يموت‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ فجعل ينشج ويقول‏:‏ هاه هاه طفيل - ويبكي - حتّى سقط على وجهه ميتاً‏.‏

وأراد بابني سميّة عبّاداً وعبيد الله ابني زياد بن سميّة‏.‏ والوصب‏:‏ المرض‏.‏ والعزاء بالمدّ‏:‏ الصبر‏.‏

وقوله‏:‏ فما لفظتك من ريّ الخ ، ما رميتك في القبر لأجل أكلك وشربك بخلاً‏.‏

وأبو الطفيل هو عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمير بن جابر بن حميس ابن جديّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار‏.‏ وغلبت عليه كنيته‏.‏ ومولده عام أحد، وأدرك من حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، ومات سنة مائة وهو آخر من مات مّمن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد روي عنه نحو أربعة أحاديث، وكان محبّاً في علي رضي الله عنهما، وكان من أصحابه في مشاهدة وكان ثقةً مأموناً يعترف بفضل الشيخين، إلاّ أنّه كان يقدّم عليّاً‏.‏ توفي سنة مائة من الهجرة‏.‏ ولما قتل علي رضي الله عنه انصرف إلى مكّة فأقام بها حتى مات، وقيل أقام بالكوفة ومات بها؛ والأوّل أصحّ‏.‏

وقد ذكره ابن أبي خيثمة في شعراء الصّحابة‏.‏ وكان فاضلاً عاقلاً، حاضر الجواب فصيحاً‏.‏ وكان يتشيّع في عليّ ويفضله، وهو شاعر محسن، وهو القائل‏:‏ الطويل

أيدعونني شيخاً وقد عشت حقبةً *** وهنّ من الأزواج نحوي نوازع

وما شاب رأسي من سنين تتابعت *** عليّ ولكن شيبتني الوقائع

هذا ما ذكره صاحب الاستيعاب‏.‏

وقال صاحب الأغاني‏:‏ كان أبو الطفيل مع أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه؛ وروى عنه‏.‏ وكان من وجوه شيعته، وله منه محلٌّ خاص يستغنى بشهرته عن ذكره‏.‏

ثم خرج طالباً بدم الحسين - رضي الله عنه - مع المختار بن أبي عبيد ، وكان معه حتّى قتل المختار‏.‏ ولّما استقام لمعاوية أمره لم يكن شيء أحبّ إليه من لقاء أبي الطفيل، فلم يزل يكاتبه ويلطف له حتّى أتاه؛ فلما قدم عليه جعل يكلّمه، ودخل عليه عمرو بن العاص ومعه نفر، فقال لهم معاوية‏:‏ أما تعرفون هذا‏؟‏ هذا فارس صفيّن وشاعرها، خليل أبي الحسن‏.‏ ثم أنشد من شعره‏.‏

قالوا‏:‏ نعم هو أفحش شاعر وألأم جليسا‏؟‏‏!‏ فقال معاوية‏:‏ يا أبا الطفيل أتعرفهم‏؟‏ قال‏:‏ ما أعرفهم بخير، ولا أبعدهم من شرّ‏!‏ ثم قال له معاوية‏:‏ ما بلغ من حبّك لعليّ‏؟‏ قال‏:‏ حبّ أمّ موسى لموسى‏!‏ قال‏:‏ فما بلغ من بكائك عليه‏؟‏ قال‏:‏ بكاء العجوز الثّكلى والشّيخ الرّقوب؛ وإلى الله أشكو التقصير‏!‏ قال معاوية‏:‏ لكنّ أصحابي هؤلاء لو كانوا سئلوا عنّي ما قالوا فيّ ما قلت في صاحبك‏.‏ قالوا‏:‏ إذاً والله ما نقول الباطل؛ فقال لهم معاوية‏:‏ لا والله ولا الحقّ تقولون‏!‏‏.‏

ولّما رجع محمّد بن الحنفية من الشام حبسه ابن الزّبير في سجن عارم، فخرج إليه جيش من الكوفة، عليهم أبو الطفيل، حتّى أتوا السجن فكسروه وأخرجوه؛ وكتب ابن الزبير إلى أخيه مصعب أن يسيّر نساء كلّ من خرج لذلك، فأخرج مصعب مع النساء أمّ الطفيل امرأة أبي الطفيل، وابناً له صغيراً يقال له يحيى؛ فقال في ذلك‏:‏ المتقارب

إن يك سيّرها مصعب *** فإنّي إلى مصعب مذنب

أقود الكتيبة مستلئم *** كأنّي أخو عرّة أجرب

عليّ دلاصٌ تخيّرته *** وفي الكفّ ذو رونق مقضب

فلو أنّ يحيى به قوةٌ *** فيغزو مع القوم ويركب‏!‏

ولكنّ يحيى كفرخ العق *** ب في الوكر مستضعفٌ أزغب

ولما دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزّبير بمكة‏.‏ قال‏:‏ أصبحت كما قال الشاعر‏:‏

فإن تصبك من الأيّام جائحةٌ *** لا أبك منك على دنيا ولا دين

قال‏:‏ وما ذاك يا أعرج‏؟‏ قال‏:‏ هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس، وعبيد الله أخوه يطعم الناس فما بقيّا لك‏.‏ فأحفظه ذلك فأرسل صاحب شرطته عبد الله بن مطيع، فقال انطلق إلى ابني عبّاس فقل لهما‏:‏ أعمدتما إلى راية ترابيّة قد وضعها الله فنصبتماها‏؟‏ بدّدا عنّي جموعكما ومن ضوى إليكما من ضلاّل أهل العراق، وإلاّ فعلت وفعلت‏!‏‏!‏ فقال له ابن عبّاس‏:‏ قل لابن الزّبير‏:‏ يقول لك ابن عبّاس‏:‏ ثكلتك أمّك، والله ما يأتينا من النّاس إلاّ رجلان‏:‏ طالب فقه، وطالب فضل، فأيّ هذين تمنع‏؟‏ فقال أبو الطفيل عامر بن واثلة‏:‏ البسيط

لا درّ درُّ اللّيالي كيف تضحكن *** منها خطوبٌ أعاجيب وتبكينا

ومثل ما تحدث الأيّام من غيرٍ *** يا بن الزّبير عن الدّنيا تسلّينا

كنّا نجيء ابن عبّاس فيقبسن *** علماً ويكسبنا أجراً ويهدينا

ولا يزال عبيد الله مترعةً *** جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا

فالبرّ والدّين والدّنيا بدارهم *** ننال منها الذي نبغي إذا شينا

إنّ النّبي هو النّور الذي كشفت *** به عمايات باقينا وماضينا

ورهطه عصمةٌ في ديننا ولهم *** فضلٌ علينا وحقّ واجب فينا

ولست فاعلمه أولادنا بهم رحماًيا ابن الزّبير ولا أولى به دينا

فقيم تمنعهم منّا وتمنعن *** منهم وتؤذيهم فينا وتؤذينا

لن يؤتي الله من أخزى ببعضهم *** في الدّين عزّاً ولا في الأرض تمكينا

وأنشد بعده‏:‏ وهو